مدونة كائن هامشي وناقم

يوميات وأشياء أخرى

بين التظاهر والكتمان

تنقسم صديقاتي إلى قسمين، قسم ربّات بيوت، شابات سعيدات غالبا، ينصبّ اهتمامهنّ على البيت والأطفال والزيارات العائلية والرحلات السنوية، ومواسم التخفيضات، وقد يتصدر هذه المواضيع كل ما يتعلق بشؤون خادمة المنزل، بدءا من مشيتها ورائحتها وطول او قصر استعمالها لهاتفها وقصة حياتها في بلدها وتمرر قصتها بالطبع الى افراد العائلة الكبيرة والمعارف، انتقالا الى مهاراتها في انجاز اعمال البيت. موضوع الخادمة يحتل المرتبة الأولى في التداول والتشويق والامتاع.

القسم الاخر من صديقاتي أيضا ربات بيوت وأيضا يلقين اهتماما على العاملة والزوج والأطفال، لكن تشغلهن تلك الرحلة اليومية من والى العمل، فهن موظفات عليهن اثبات مضاعف لجدارتهن واهميتهن. صديقاتي العاملات يبدين سعادتهن في لهاث، وشعور محيّر بالفخر والهزيمة يتناوبان على نغمة الصوت في حكاياتهنّ المُلقاة عرضاً هنا وهناك صباحا ومساء، يسهل عليّ فهم الحركة النفسية التي تعتمل في صدر صديقتي ربّة البيت، ويصبح الأمر أكثر تعقيدا عندما ألتقي بالصديقة العاملة.

في موعد ضربته لي صديقة تعمل في منصب مرموق وبراتب مجزي ولديها عائلة تبدو متماسكة، طفليها الأصغر في المدرسة بينما ابنتها الكبرى في سنتها الثالثة في الجامعة، تحقق اللقاء أخيرا معها بعد مداولات طالت وامتدت لأشهر حتى تمكنت من القدوم في الخامسة عصرا في مكان حددته أنا، وصلت قبلها قصدا حتى أختار مكانا مناسبا لحديث أعرف كيف وإلى اين سيتجّه، طاولة ملساء لتسيل عليها الدموع وتنسكب بسهولة دون ان تتحول لبركة يصعب تصريفها، وبثلاث مقاعد، لنلقي عليها حقائبنا. قرأت قائمة الطعام وفكرت فيما ستحتاجه في هذا الوقت وهي عائدة من عملها، وبالطبع احضرت كتابي في حال تأخرت أو لم تجد المكان بسهولة، فهي قلّما تشاهد العالم الخارجي ولا تعلم الكثير عن الأماكن الجديدة في المدينة.

في الخامسة والربع هاتفتني وفي صوتها شيء من التردد وربما الخوف، قالت أنا قريبة، ولكن هذه المنطقة يعيش فيها أهل زوجي! فلم أفهم، قالت لن أشعر بالراحة، قلت لها تعالي أنا بانتظارك في الطاولة رقم 7 ويمكننا اغلاقها بستارة.

وصلت وقد ارتدت عباءة يتعلق بها لوجو كبير لمصممة شهيرة، احتضنتُ عطرها الفواح وربّتنا كثيرا على تلك القبلات التائهة وضحكنا بفرح طفولي، عبرت أولا عن دهشتها بجمال المكان واعتبرت معرفتي به موهبة كبيرة وذكاء وحسن إدارة وو، ثم عبرت عن خوفها من ان يسمع أحد أحاديثنا (تعني حديثها) التي لا زالت عالقة في حلوقنا (حلقها) المغطاة بشيل الشيفون، غنيتُ لها: جلست والخوف بعينيها. فضحكت. كان عليّ أن أجعلها تضحك.

لم تذكر الخادمة، بل ذكرت والد زوجها الذي يخيفها كثيرا والذي تمرض كلما رأته، لم تذكر زوجها ولا ابناءها ولا وظيفتها، كانت ترتجف، ولم تعد قادرة على القيام بالزيارة الأسبوعية، وأصبحت تتخيله في مشاهد تجعلها تدخل في حالات اغماء قصيرة وتخاف من إغماءة لا تصحو منها.

كنت أستمع ولا أعرف إلى أيّ حدّ قد تبدو هذه الحكاية دقيقة، حاولت أن أكون مستمعا نافعا، تتجاوز فائدته هزّ الرأس والهمهمة والموافقة، لذلك بعد ان انتهيت من صحني سحبت صحنها الذي لم تأكل منه سوى لقمتين وأجهزت عليه، واكملت الشاي المتبقي في الابريق، ثمّ طلبت لها شايا مهدئا بعشبة الليمون والبابونج. راقبت كثيرا أصابعها النحيلة وهي ترفرف في الهواء في تواكب فنّي مع انفعالاتها ومع سقوط شيلتها ببطء وظهور شعرها الناعم، ترتفع اليدان لتعيدا الموقف المحتشم لما يجب ان يكون عليه، تستقران قليلا على كوب الشاي ثم تقلبان صفحات كتابي في شرود، قالت انها ستشتري مثله وتقرأه، لم أخبرها انه قديم جدا وربما لم يعد موجودا في المكتبات، اخبرتها فقط بأنّ به الكثير من التعابير الإباحيّة في قصص قصيرة ماجنة، كانت تهذي وكان عليّ اضحاكها.

بالطبع كان الفضول يتشكّل كسحابة نشوة تهبط من فوق رأسي لتدخل فمي وتحرّك لساني بالسؤال الذي لم أنوِ طرحه، لماذا تخافي من عمّك؟ وكان ردّها عبارة عن غمغمات تبدأ من النهاية وتعود للنهاية مرّة أخرى، لم تقف عند أصل الحكاية وتظنّ بأنها أقنعتني بكونه شخص متسلّط ويتدخّل في كل شؤون حياتهم، بدءاً من مكان وظيفتها وسفريّاتها وتخصّص ابنتها ومواعيد زياراتهم، وبأن زوجها يحبّ أبيه حبّا جمّا، الحب الذي وصفته بغسيل دماغ أو بالشخصية الضعيفة المنساقة. أنا سمعت ما لم تقله، وعرفت بما لم تبح به. رأيت وجها أسفل وجهها، في طبقة داخليّة غير ظاهرة، وجه مرقّع بالخزي والغضب. أمسكت يدها بحنوّ، قلت لها أخبريني عن عاملتك الجديدة، فأشرق وجهها ورقصت أصابعها النحيلة وظهرت غمازة صغيرة أعلى وجنتها اليسار، وتحركت شفتاها بين شرب الشاي وبين تعداد المزايا المذهلة لجوسلين، التي تعدّ كلّ أنواع الكبسات والمعجنات والحلويّات اللبنانية والخليجية، وعن يدها الحريريّة في غسل وكيّ عباءاتها ودشاديش زوجها الذي توقف عن إرسالها لمغسلة الثلج الأبيض. كان عليّ إضحاكها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *