في أواخر أكتوبر من العام المنصرم ظهر لي إعلان يقول:” تدعوكم الجزيرة الوثائقية لحضور العرض السينمائي لفيلم ثورة الحقول”. استجبت ضمنيّا للدعوة، فقررت فورا تلبيتها على اعتقاد أن العرض سيكون في أحد دور السينما في مسقط أو على قناة الجزيرة، لم أكن قد سمعت عن العرض شيئا من قبل، ولم يلفت انتباهي سوى العنوان. وبعد ذلك عندما قرأت اسم مخرجة الفيلم، تأكدت رغبتي في حضوره، نيشتا جاين لم تكن اسما عاديا فهي صاحبة فيلم الخيط الذهبي والذي كنت قد شاهدته في العام 2022. تركز جاين على الطبقات العمالية وعلى قضايا الظلم والفساد في الهند. تتبعت الإعلان فعرفت أن الفيلم سيعرض في سينما نوفو في الدوحة، دون تفكير مطوّل انتقلت من صفحة الجزيرة على الإنستغرام إلى صفحة حجوزات الطيران وحجزت مقعدا في ذات اليوم إلى الدوحة، دون أن أتكلف عناء البحث أو تقصّي أي تفاصيل إضافية كان من المهم الإحاطة بها.
وصلت مساء الثلاثاء وقضيت الليلة في مقهى فندق ايبيس أعمل على مشروع روايتي الأولى، خرجت لاحقًا للعشاء في سوق واقف الذي عدت له صباحا لتناول إفطار قطري شعبي، شاي كرك في كوب زجاجي أصفر و”بلاليط مهيّلة مزعفرة” بالبيض. تنقلت بين محلّات السوق ألتقط صورا وأشتري ما تيسّر ممّا خفّ وزنه وثمنه. ثم قضيت فترة ما بعد الظهر في مكتبة قطر الوطنية، خمس ساعات شيّقة لم أتوقف خلالها عن التأمل والقراءة. تأمل حركة روّاد المكان في التنقل بين أروقة البهو الشاسع، (كانت المكتبة بهواً كبيراً بحق)، ومراقبة توزع وانتشار الضوء تبعا لحركة الوقت.
خرجت قبل موعد عرض الفيلم بساعة من المكتبة متجهة نحو قاعة سينما نوفو، لأتفاجئ عند وصولي لمكتب قطع التذاكر بأن العرض افتتاحي/رسمي، وكان الحضور حصريًّا للمدعوين، ومما لم تفوّتهُ عيناي كان ذلك الحضور الإعلامي الكبير، حضور رسمي، كاميرات، ومقابلات تجرى على السجادة الحمراء؛ شعرت بالضياع وسط هذه الأجواء المباغتة لي، فكرت لوهلة في العودة والخروج من الموقف المحرج نحو مطعم قريب لأتناول وجبة تسدّ جوعي وأتدارك بها سوء تقديري للأمور. لم أتحرك من مكاني، وطلبت مقابلة المسؤول عن العرض، وأعلمته برغبتي في حضور الفيلم؛ اعتذر بلطفٍ قائلًا: بأن العرض فقط للمدعوين ولموظفي الجزيرة وعائلاتهم، أخبرته بأنني قادمة من مسقط لحضور الفيلم حصرا ولا لشيء آخر– فورًا تغير موقفه! رحب بي بحرارة واعتذر، وتكفّل بحجز مقعد مخصص لي، لاسمي. اقترح عليّ مطعما قريبا أقضي به الوقت حتى يحين وقت فتح قاعة العرض، شكرته واتجهت نحو مطعم صغير لا يبعد سوى دقيقتي مشي من القاعة. أصبحت سائحة سعيدة؛ بعد أن كنت منذ لحظات أنقم عبثيّتي التي تتفاقم يوما عن يوم.
عدت في الوقت المحدّد، واتجهت مباشرة نحو مقعدي الذي وضع عليه جدول حفل افتتاح الفيلم وهدايا رمزية ووجبة خفيفة. بدأت كلمة الافتتاح من مدير قناة الجزيرة، ثم كلمة المخرجة التي ما إن اعتلت المنصّة حتى ساد التصفيق وشاع جوّ من الرهبة اللذيذة، استمعت لها وشعرت: كم أنا محظوظة هذا المساء!
ثم بدأ الفيلم مع سكون أطبق على المكان.
اليوم وبعد مرور نصف عام، وبمحض الصدفة افتح التلفاز فيظهر لي فيلم “ديل سي” بطولة شاروخان وإنتاج عام 1998، بدأ الفيلم بأغاني راقصة على سطح القطار وهو يمخر عباب الجبال الخضراء والطبيعة الخلابة، يترافق المشهد مع ألوان الراقصين المبهرجة والبطون المشدودة والعضلات المقسّمة بدقّة تراتبية إعجازية، تمايلاتُ أجساد تجعلك تتأمل كرشك وارتخاء عضلاتك في حسرة، وتضمر نيّة معاودة ممارسة الرياضة على وجه السرعة القصوى. وهكذا تشعر أنك على مشارف مشاهدة فيلم ممتع يصلح لتناول غداءك معه دون منغّصات. لكن على حين غرّة، تأخذك الحركة والتعابير والحوارات القصيرة إلى ساحة قتال، وسط جبال شرق الهند، حيث تجري تدريبات عسكريّة واجتماعات سريّة في أجواء خطرة، لم تمنع الصحفي الشاب في قناة “كل الهند” من الوصول إليها ليعدّ برنامجه الخاص بمناسبة مرور خمسين سنة على الاستقلال، بدأ البرنامج بمقابلات عفويّة من الشارع، لأطفال وسيدات وفتية يعملون ليل نهار، لقّن المذيع الصغار جواب ” الهند هي الأفضل” ” نحن سعداء”، بينما لم يتمكن من ذلك مع الذين عركتهم الحياة القاسية، فأجابوا غاضبين: “عن أيّ حريّة تتحدث!، الحكومة لم تنفّذ أيّ من وعودها لنا”….ورغم تحذير مديرة القناة له إلا انه وصل إلى وكر الفصائل “الإرهابية”، واجرى مقابلة جريئة مع زعيمها الذي كوّن حركة متشددة تخوض صراعا مسلحا مع الشرطة والجيش، بعد خمسين سنة من الاستقلال، ومن إهمال الحكومة للقرى البعيدة لعدم أهميتها في أصوات الناخبين عكس دلهي التي يصب عليها جلّ الاهتمام.
ردّ زعيم الإرهابيين على الصحفي المندفع: نحن ثوّار ولسنا إرهابيون. فسأله في حماس في غير محلّه: من أين تحصلون على الشجاعة؟
دفعني هذا السؤال للكتابة؛. فمن أين يأتي الإنسان بالشجاعة اللزامة لتحدي السلطة، والخروج للتظاهر في الشارع لعام كامل، دون التوقف عن مطالباته السلمية منزوعة السلاح في ثورة الحقول؟ وما الذي يعنيه، بعد ذلك، اللجوء للمقاومة العسكرية في ديل سي؟. هل هو اليأس من انتظار يطول دون تحقّق أيّ من الوعود والآمال المهدرة؟ أم الخوف من الجوع؟ وهل تأتي شجاعة هؤلاء المظاليم من الظالم نفسه؟
بين فيلم ديل سي والذي يعني “من القلب” وفيلم ثورة الحقول، بين فيلم رومانسي درامي وآخر وثائقي، تتقاطع قضايا الطبقة الكادحة في الهند من مزارعين وعمّال ومواطنين يطالبون بحقوقهم من حكومتهم التي أكملت على العرش خمسين سنة ينتظرون أن تقدم لهم أفضل ممّا قدّمه المستعمر. وبينما يكشف الفلمين عن طبيعة مطالبات الحقول، لا يتوانى عن كشف الخطاب السلطوي الذي يرى في كل معارضٍ شبح إرهابي، فيظهر رئيس الوزارء في فيلم ثورة الحقول ناعتًا المعتصمين السلميين بالمخربين مرّةً، والإرهابيين مراتٍ أخرى.
ورغم أن فيلم ثورة الحقول يخلو من رقص إيقاعي لبطلين وسيمين، ومن أغاني حب تفيض كلماتها رومانسية عذبة:
الحبيب الشبيه بالعطر
لغته الأم بحلاوة الأرية
ذلك الحبيب أمسيتي، ليلي، كوني، حبي
هيا لنمش تحت الغطاء
عندما تتباهى وردة خفية بنفسها
يعرف مكانها من عبيرها
سألبسها كتعويذة
ذلك الحبيب عندي ديانة
هو لحني ايماني، ايماني لحني
رغم ذلك إلا أن فيلم ثورة الحقول الذي تتبع حركة نصف مليون مزارع متظاهر، ليس من بينهم من هو بجاذبية شاروخان ولا بفتنة بريتي زينتا، إلا انه هو الذي وصف بالسيمفونية الموسيقية، ليس بسبب الأغاني الراقصة، وإنما بسبب الخطب الملتهبة والقصائد والتراتيل السيخيّة. يُظهر الفيلم في تصوير علويّ حياة المتظاهرين اليومية خلال ستة عشرة شهرا، في أحد المشاهد، تجتمع النساء المسلمات والسيخيات والهندوسيات في خيام، يتدفأن بالنار ويغنين بصوت جماعي:
يا حكومة أنت تثيرين غضبنا
استيقظوا أيها الناس
سنقيم بيوتنا هنا
استيقظوا أيها الناس
سنغلق جميع طرقك
استيقظوا أيها الناس
لقد قدمت لنا وعودا كاذبة
استيقظوا أيها الناس
لقد وعدت شبابنا بوظائف وها هم يجوبون الشوارع عاطلين
استيقظوا أيها الناس
هناك احتشاد غني في الاستقصاء السمعي والبصري للفيلمين على اختلافهما، لكن ديل سي ركّز على بطولة مطلقة للنجم شاروخان، وبطولة ثانوية لبريتي زينتا، بينما تجنب ثورة الحقول التركيز على شخصية معينة، فنجده يتنقل بين محتجٍّ وآخر، إمّا من خلال حوار، أو مشهد صامت، او حركة داخل المطبخ، أو المطبعة اللذين أُسِسا في خدمة المتظاهرين.
وأمام ما يحدث في العالم من ظلم يسحق الانسان دون ايّ اعتبارات، نجد أنفسنا في مواجهة مخيفة، سؤال على شاكلة مختلفة، سؤال عليه أن يقضّ مضاجعنا. ما هو مصدر جُبنك؟